موقع منظمة المواهب

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

موقع خاص لأعضاء منظمة المواهب


    باب التاريخ...الصين القديمة

    avatar
    nidhal0072


    المساهمات : 26
    تاريخ التسجيل : 30/07/2010

    باب التاريخ...الصين القديمة Empty باب التاريخ...الصين القديمة

    مُساهمة  nidhal0072 الجمعة أغسطس 13, 2010 7:34 pm

    منذ نحو ألفين وخمسمائة عام تعيش على الأرض أمة صينية تستخدم لغة صينية، وإن هذا لدليل على حضارة طويلة ومستمرة ومنيعة على التأثير الخارجي، لا يجاريها في ذلك إلا حضارة مصر القديمة. ولقد بقيت حكومة الصين لزمن طويل وحدة واحدة بالرغم من فترات الانقسام والاضطراب، وصاغت لها هذه الخبرة هوية تاريخية ثقافية بقدر ما هي سياسية، لأن ثقافة الصين هي التي سهلت توحيد الحكم. ومنذ تاريخ باكر جداً تبلورت فيها مؤسسات ومواقف تناسب ظروفها الخاصة، وسوف تستمر لزمن طويل.

    تظهر الأدلة على الزراعة في شمال الصين، في أرض أعلى بقليل من مستوى فيضان النهر الأصفر؛ كانت تلك زراعة من النوع الذي يستنفذ التربة بشكل كامل أو جزئي، وتعود الأدلة عليها لحوالي 5000 ق.م. من هذه المنطقة الهامة انتشرت الزراعة شمالاً إلى منشوريا وجنوباً أيضاً. وسرعان ما ظهرت فيها ثقافات معقدة تستخدم حجر اليشب والخشب للحفر، وتدجن دودة القز، وتصنع الأواني المعدة للاحتفالات بأشكال سوف تصبح تقليدية، بل ربما كان الصينيون يستخدمون العيدان في تناول الطعام منذ ما قبل التاريخ. ويقصد من هذا كله أن الصين كانت منذ الأزمنة النيوليتية تبدي ملامح كثيرة سوف تميزها في المستقبل. ومن هذه العلامات الاستخدام الواسع للدخن، وهو نوع من الحبوب ملائم للزراعة الجافة* التي كانت تمارس أحياناً في الشمال، كما أنه قد ظل المادة الأساسية في طعام الصينيين حتى ألف سنة خلت تقريباً.

    تتحدث كتب الصين القديمة وأساطيرها عن شخصية اخترعت الزراعة، ويدل ذلك على أهمية هذا الاختراع. إن الأشياء التي يمكنك استنتاجها بشكل أكيد وواضح عن التنظيم الاجتماعي الباكر هي أشياء قليلة جداً، ولكنهم كانوا يعتبرون أن كل بقعة تحت السماء هي أرض الحاكم، وربما كان هذا انعكاساً لأفكار قديمة تقول إن الأرض برمتها ملك للجماعة ككل. ويمكنك أيضاً أن تنسب إلى الأزمنة الباكرة ظهور بنية العشيرة والطواطم، إذ تكاد القرابة أن تكون أول مؤسسة يمكن تمييزها، وسوف تستمر لتصبح هامة في الأزمنة التاريخية. وتوحي الأدلة التي يقدمها الخزف ببعض التعقيد في الأدوار الاجتماعية، لأن هناك قطعاً رقيقة منه تعود إلى الأزمنة النيوليتية لا يمكن أن تكون قد صنعت لأغراض الاستعمال اليومي، فيبدو إذن أن مجتمعاً متعدد الطبقات كان قد بدأ يبزغ قبل أن نصل إلى الحقبة التاريخية.

    لقد بقيت تلك الزراعة التي قامت عليها ثقافة الصين المتقدمة محصورة بشمال البلاد، وإن هناك مناطق كثيرة في هذا البلد الشاسع لم تبدأ بالزراعة إلا بعد زمن طويل، وفي مرحلة متقدمة من الحقبة التاريخية. ولكن العلماء متفقون مع التقاليد التي تقول إن قصة الحضارة تبدأ في هذه المنطقة الشمالية الهامة على عهد حكام ينتمون لشعب يدعى الشانغ، وهو أو اسم في اللائحة التقليدية للسلالات له أدلة مستقلة تؤيد وجوده. وقد بقيت هذه اللائحة أساس تقسيم تاريخ الصين لزمن طويل، وسوف تصبح التواريخ أكثر دقة منذ أواخر القرن الثامن ق.م، ولكن ليس ثمة تقسيم جيد لتاريخ الصين الباكر مثل الذي نعرفه عن مصر. وفي حوالي عام 1700 ق.م مع هامش قرن واحد زيادة أو نقصاناً تمكنت قبيلة اسمها الشانغ، كانت تتميز باستخدام العربة في المعارك الحربية، من فرض نفسها على جيرانها على امتداد رقعة واسعة من النهر الأصفر، وعلى حوالي 40.000 ميل مربع (100.000 كم2) من شمال هونان.



    صين الشانغ

    كان ملوك الشانغ شخصيات عظيمة عاشوا وماتوا في أبهة، وكان العبيد والضحايا يقدمون قرابين ويدفنون معهم في مدافن عميقة وفخمة. ويبد أن حكومة الشانغ كانت عبارة عن ملاك أراضي محاربين يرأسون سلالات أرستقراطية لها أصول شبه أسطورية، ولكنها تمكنت من توحيد العملة وتشييد تحصينات ومدن على مستوى يحتاج إلى مجهود جماعي واسع. وكان في بلاط الشانغ كتبة وأمناء أرشيف، فقد كانت تلك مملكة تعرف الكتابة، ويبدو أنها كانت تحكم أول ثقافة عرفت الكتابة بحق إلى الشرق من بلاد الرافدين إلا إذا تبين أن الكتابة في وادي الهندوس كان أكثر تطوراً مما يبدو الآن، وكان لحضارة الشانغ أيضاً تأثير يمتد وراء المنطقة التي سيطرت عليها هذه السلالة سياسياً.

    صين التشانغ والصين الحالية

    في الأزمنة الباكرة كانت القرارات الكبرى والأقل منها أيضاً تتخذ عن طريق قراءة الوحي، فكانوا يحفرون رموزاً على تروس السلاحف أو عظام ترقوة الكتف المأخوذة من حيوانات معينة، ثم يوضع عليها دبوس برونزي محمى بحيث يصنع شقوقاً على الطرف المقابل، وينظر في اتجاه هذه الشقوق وطولها بالنسبة إلى الرموز ويقرأ الوحي بناء على ذلك. ويقدم هذا الأمر دليلاً على فترة تأسيس اللغة الصينية، لأن الرموز المنقوشة على هذه العظام والتي كانت تحفظ كسجلات هي الأشكال الأساسية للغة الصينية الكلاسيكية. كان لدى شانغ نحو 5000 رمز من هذه الرموز، ولكن لا يمكن قراءتها كلها، إلا أننا نعلم أن بنية اللغة منذ ذلك الحين كان مثل بنية اللغة الصينية الحديثة، أي أنها مكونة من صور يمثل كل منها مقطعاً صوتياً واحداً، وهي تعتمد على ترتيب الكلمات وليس على تصريفها من أجل إضفاء المعنى، فقد كان الشانغ إذن يستخدمون شكلاً من أشكال اللغة الصينية. وسوف يتحول قراء الوحي في المستقبل إلى طبقة العلماء النبلاء، وهم خبراء لا غنى عنهم لأنهم يملكون مهارات مقدسة وسرية. وهكذا بقيت اللغة حكراً على نخبة صغيرة نسبياً وجدت أن امتيازاتها متأصلة فيها، وأن من مصلحتها أن تحميها من الفساد والتحريف. وكانت اللغة قوة عظيمة في تأمين الوحدة والثبات، كما صارت الصينية المكتوبة لغة للحكم والثقافة تسمو على تقسيمات اللهجات المحلية والأديان والمناطق، وسوف يبقى فن التخطيط ذا مرتبة عالية بين فنون الصين، وبهذه الوسيلة تمكنت النخبة من ضمن هذا البلد الواسع والمتنوع برباط واحد.

    حقبة التشو

    انهار الشانغ في النهاية أمام قبيلة أخرى من غرب الوادي، هي قبيلة التشو، وقد حدث هذا على الأرجح في عام 1027 ق.م. لقد تم على عهد التشو الحفاظ على الكثير من بني الشانغ الحكومية والاجتماعية المتقدمة وازدادت تطوراً أيضاً، كما استمرت طقوس الدفن وتقنيات شغل البرونز والفنون التزيينية بأشكال لم تتغير تقريباً. وقد شهدت مرحلة التشو تمتين هذا الميراث وزيادة انتشاره، وتبلور مؤسسات إمبراطورية الصين القادمة، واللافت أن التشو كانوا يعتبرون أنفسهم محاطين بشعوب بربرية تتمنى أن تحقق لها سلالتهم السلام كي تنعم بخيراته، والحقيقة أن سيادتهم كانت ترتكز على الحروب. كانت الحكومة في العادة عبارة عن مجموعة من الوجهاء والأتباع، بعضهم أكثر اعتماداً على السلالة من بعضهم الآخر، ويؤدون لها في أيام الرخاء على الأقل اعترافاً شكلياً بسلطتها، كما يزداد اشتراكهم بثقافة واحدة. كانت الصين ككيان سياسي من المنطقي استخدام هذا التعبير ترتكز على أملاك بيرة على درجة من التماسك تسمح لها بالبقاء طويلاً، وأحياناً كان سادتها الأصليون يتحولون إلى حكام يمكن أن نسميهم ملوكاً، تخدمهم بيروقراطيات بسيطة خاصة بهم.

    مملكة التشو

    في نحو 700 ق.م طرد البرابرة التشو من مركز أجدادهم إلى وطن جديد إلى الشرق في هونان، ولكن سلالتهم بقيت حتى عام 256 ق.م. وتمتد المرحلة التالية التي يمكن تمييزها منذ عام 403 وحتى 221 ق.م، وتعرف باسم ذي دلالة، هو مرحلة الدول المتحاربة. لقد بات الاصطفاء التاريخي عن طريق الصراع الآن ضارياً، وراحت الأسماك الكبيرة تلتهم الصغيرة حتى لم يبق في النهاية إلا حوت واحد كبير، فصارت جميع أراضي الصينيين للمرة الأولى إمبراطورية واحدة كبيرة تحكمها سلالة التسين، التي أتى منها اسم الصين. ومن المناسب أن نتوقف عند هذه النقطة، فقد دلتنا سجلات الصين التاريخية التقليدية حتى الآن، على نحو خمسة عشر قرناً من الصراعات الغامضة بين الملوك والرعايا الأقوياء من دون أن تعطينا خطاً للقصة، إلا أننا نستطيع تمييز عمليات أساسية كانت تجري خلالها سوف تكون لها أهمية عظيمة في المستقبل.

    من تلك العمليات الانتشار المستمر للثقافة من حوض النهر الأصفر نحو الخارج، لقد بدأت الحضارة الصينية بشكل جزر صغيرة جداً في بحر من البربرية ولكنها صارت في عام 500 ق.م ملكاً مشتركاً لعشرات بل ربما مئات الدويلات والإقطاعيات الموزعة عبر الشمال، كما انتقلت إلى وادي اليانغ تسي كيانغ. وكانت هذه منذ زمن بعيد أرض مستنقعات وغابات كثيفة ومختلفة جداً عن الشمال، وكانت تسكنها شعوب أكثر بدائية. وعند نهاية مرحلة الدول المتحاربة كان مسرح تاريخ الصين على وشك الاتساع بشكل كبير، فقد تغلغل نفوذ التشو في هذه المنطقة، ولعب التوسع العسكري دوراً في ذلك وساهم في هذا التغلغل في صنع أول ثقافة ودولة كبريين في وادي اليانغ تسي كيانغ.

    مجتمع الصين الباكر

    منذ عهدي الشانغ والتشو كان قد وضع نمط مجتمع المستقبل بشكل انقسام جوهري إلى طبقتين، هما طبقة النبلاء أصحاب الأرض، وطبقة العامة وسوادها من الفلاحين. لقد دفعت الطبقة العامة وأحفادهم، وهم الأكثرية العظمى من الشعب، ثمن كل ما أنتجته الصين من حضارة وسلطة، ولكننا لا نعلم إلا القليل من أعدادهم التي لا تحصى، لأن الفلاح الصيني كان ينتقل بين كوخه الطيني في الشتاء ومخيم يعيش فيه خلال أشهر الصيف لكي يحرس المحاصيل ويرعاها، لم يترك أي من هذين المسكنين أثراً يذكر. عدا عن هذا يبدو الفلاح مغموراً في جماعة لا اسم لها، فهو لا ينتمي إلى عشيرة ومرتبطاً بالأرض التي يؤخذ منها في بعض الأحيان لكي يؤدي واجبات أخرى ويخدم سيده في الحرب أو في الصيد.

    وقد استمر التمييز بين عامة الشعب والنبلاء زمناً طويلاً جداً، وفي أزمنة لاحقة كان النبلاء معفيين من عقوبة الجلد التي قد تطبق على العامة، ولو أنهم كانوا بالطبع معرضين لعقوبات مناسبة بل رهيبة في حال ارتكابهم جرائم أخطر، كما كانوا يتمتعون باحتكار فعلي للثروة استمر بعد احتكارهم الأبكر للأسلحة المعدنية. إلا أن الفرق الحاسم في المنزلة إنما هو في مكانة النبيل الدينية الخاصة والناشئة من احتكاره طقوساً دينية معينة. والنبيل وحده ينتمي إلى عائلة أي أن له أجداداً وإن تقاليد توقير الأجداد واسترضاء أرواحهم تعود إلى ما قبل أزمنة الشانغ.

    إن العائلة هي تطوراً قانونياً للعشيرة وفرعاً منها، وكان هناك نحو مائة عشيرة لا يحق لأفرادها الزواج من شخص من العشيرة نفسها، وكانوا يعتقدون أن كلاً منها قد أسسها بطل أو إله. كان آباء عائلات العشائر وبيوتها يمارسون سلطة خاصة على أفرادها، وكان جميعاً مؤهلين لأداء طقوسها المضنية والطويلة، التي يطلبون فيها من الأرواح أن تتوسط لصالح العشيرة لدى القوى المسيطرة على الكون. ثم صارت هذه الطقوس تميز الأشخاص المؤهلين لامتلاك الأراضي وشغل المناصب. وكان هناك نوع من تساوي الفرص على مستوى العشيرة، لأن أياً من أفرادها يمكنه أن يعين في أعلى مناصبها، فكلهم مؤهلون لذلك بفضل تحدرهم جوهرياً من أصول شبه إلهية؛ وبهذا المعنى لم يكن الملك إلا رجلاً أول بين رجال متساوين، ونبيلاً بارزاً بين جميع النبلاء.

    أما عامة الشعب فكانت تجد متنفسها الديني في آلهة الطبيعة، وكان استرضاء أرواح الجبال والأنهار وعبادتها واجباً ملكياً هاماً منذ الأزمنة الباكرة، ولو أن سلطة عبادات الطبيعة في الصين كانت أضعف منها في أنظمة دينية أخرى. كان جوهر ادعاء الأسرة الحاكمة بحق الطاعة هو صدارتها الدينية، لأنها تستطيع عن طريق ممارسة الطقوس بلوغ رضا قوى غير منظورة، يمكن معرفة نياتها من خلال قراءة الوحي. وعندما يفسر الوحي يمكن تنظيم الحياة الزراعية للجماعة، لأنه هو الذي يحدد البذار والحصاد وغيرها. لذلك كانت أشياء كثيرة تعتمد على المكانة الدينية للملك، وكانت لها الأهمية الكبرى في الدولة. في عهد تشو ظهرت فكرة وجود إله أعلى من الآلهة المؤسسة للسلالات، وأنه قد منح انتداباً من السماء بالحكم، فكانت هذه بداية فكرة أخرى أساسية في المفهوم الصيني للحكم، وسوف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التاريخ الدوري، الذي يرسمه صعود السلالات وهبوطها. وقد أدى هذا الأمر بالطبع إلى محاولات تخمين من أجل معرفة العلامات التي تسمح بالتعرف على صاحب الانتداب الجديد.

    لا تعطي السجلات الباكرة لحكومة الصين الانطباع بأن الملكية كانت لديها أشغال كثيرة، فعدا عن اتخاذ قرارات السلم أو الحرب في الحالات غير العادية، يبدو أن الملك لم تكن لديه أشياء كثيرة يفعلها سوى أداء واجباته الدينية والصيد واستهلال مشاريع البناء أو تأسيس المستوطنات الزراعية، كما كان يفعل بعض ملوك التشو، وقد بزغ رويداً رويداً وزراء كانوا ينظمون حياة البلاط، بينما كان الملك عبارة عن صاحب أراضٍ لا يحتاج في الغالب إلا وكلاء ومشرفين وبعض الكتبة، ولا ريب أنه كان يقضي جزءاً كبيراً من حياته متنقلاً بين أراضيه. أما النشاط الأخير الوحيد الذي يحتاج فيه إلى مساعدة الخبراء هو النشاط المتعلق بأمور ما فوق الطبيعة، ومن هنا سوف تنمو رابطة وطيدة بين الحكم وتحديد الوقت والتقويم، وكلاهما على أهمية كبرى في المجتمعات الزراعية. كانت التقنيات اللازمة مبينة على علم الفلك، ورغم أنها اكتسبت أساساً هاماً من الملاحظة والحساب فقد كانت أصولها سحرية ودينية.

    الحديد والمدن

    كانت مرحلة التشو قد انتهت باضطرابات اجتماعية متزايدة، سببها الأرجح هو ضغط السكان على الموارد. ولهذا كان الحديد عاملاً هاماً جداً، ويبدو أنه كان مستعملاً في حوالي عام 500 ق.م، وقد أدى استخدامه إلى ارتفاع حاد في الإنتاج الزراعي، وبالتالي في عدد السكان، مثلما حدث في أماكن أخرى. وتعود أولى الأدوات الحديدية التي وجدت إلى القرن الخامس ق.م، أما الأسلحة الحديدية فقد ظهرت في زمن لاحق. ومنذ تاريخ باكر كانت هذه الأدوات تصنع عن طريق السبك، وقد وجدت قوالب لسبك شفرات المناجل الحديدية تعود إلى القرن الرابع أو الخامس، أي أن تقنية الصين في معالجة هذا المعدن كانت متقدمة جداً منذ أزمنة باكرة. وسواء أحدث هذا الأمر كتطور لسبك البرونز أو للتجريب في أفران الخزف القادرة على إعطاء درجات حرارة عالية، فإن الصين قد توصلت إلى سبك الحديد في نفس الوقت الذي عرفت فيه معالجته بالتطريق، بينما لم تصل مناطق العالم الأخرى إلى درجات حرارة كافية لسبكه إلا بعد نحو خمسة عشر قرناً.

    هناك تطور هام آخر في أواخر عهد التشو هو نمو المدن، لقد نشأت أبكر المدن على الأرجح في مواقع المعابد التي كان أصحاب الأراضي يستخدمونها كمراكز إدارية لأملاكهم، فكانت الجماعات تتجمع من حولها ومن حول معابد آلهة الطبيعة الشعبية القائمة عادة في السهول قرب الأنهار. وتجد على عهد الشانغ متاريس مصنوعة من التراب المضروب وأحياء أرستقراطية ومسورة وبقايا أبنية كبيرة. كانت آنيانغ عاصمة للشانغ في حوالي عام 1300 ق.م، وكانت فيها مسابك للمعادن وأفران للخزف فضلاً عن قصور ومقبرة ملكية. أما عاصمة التشو بعدها فكانت وانغ تشنغ، وكانت بشكل مستطيل من الأسوار الترابية يبلغ طول كل منها حوالي ثلاثة كيلو مترات. وفي عام 500 ق.م ظهرت عشرات المدن، وكانت لها في العادة ثلاثة مناطق محددة: بقعة صغيرة مسورة تعيش فيها الأرستقراطية، وبقعة أكبر يسكنها الحرفيون المختصون والتجار، ثم الحقول خارج الأسوار التي تغذي المدينة. كانت أحياء التجار إذن مفصولة عن أحياء الأرستقراطية بأسوار ومتاريس تحيط بالأخيرة، ولكنها كانت هي أيضاً واقعة ضمن أسوار المدينة، وهي علامة على تزايد الحاجة للحماية. كما كنت تجد الشوارع التجارية للمدن في مرحلة الدول المتحاربة محالاً تبيع المجوهرات والتحف الغريبة والطعام واللباس، عدا عن الحانات وبيوت القمار والبغاء.

    إلا أن قلب مجتمع الصين قد ظل بالرغم من ذلك في الريف، ومع نهاية حقبة التشو صارت طبقة أصحاب الأراضي تبدي علامات لا لبس فيها على استقلال متزايد عن ملوكها. كانت سيطرتها الاقتصادية متأصلة في امتلاكها للأرض بحكم العرف، وهذه الملكية التي يمنحها الملك نظرياً لا تقتصر على الأراضي وحدها، بل تشمل أيضاً العربات والحيوانات والأدوات، وبالأخص البشر، فالعمال يمكن بيعهم أو مبادلتهم أو توريثهم بوصية. وكان النبلاء يحتكرون الأسلحة باستمرار، وبمرور الزمن لم يعد أحد غيرهم بقادر على امتلاك الأسلحة الأغلى ثمناً والدروع والخيول التي مابرح استخدامها يتزايد. وفي عام 600 ق.م بدا من الواضح أن ملك التشو قد صار خاضعاً لكبار النبلاء، وكانت الفوضى تتزايد وكذلك الشك بالمعايير التي تحدد الحق بالحكم، وقد بلغت هذه التطورات ذروتها في الأزمة الاجتماعية والسياسية العميقة والمديدة التي ظهرت في قرون الانحلال الأخيرة من عهدي التشو والممالك المتحاربة، وأدت إلى فورة هامة من الأفكار حول أسس الحكم والأخلاق. فكان هناك مدرسة من المعلمين يسمون "القانونيين" يشددون على أن سلطة التشريع وليس أداء الطقوس[2]يجب أن تكون هي المبدأ الأساسي في الدولة، وأن يكون هناك قانون واحد للجميع، يضعه حاكم واحد ويطبقه بحزم شديد. وقد استهجن البعض هذه الأفكار واعتبروها عقيدة مشككة ومؤيدة للسلطة، ولكنها اجتذبت الملوك في القرون القليلة التالية، وقد استمر الجدال زمناً طويلاً. إن أكثر من انتقد القانونيين هم أتباع أشهر معلمي الصين قاطبة ”كونفوشيوس”.

    كونفوشيوس والثقافة الصينية

    إن اسم كونفوشيوس هو الشكل اللاتيني لاسمه الأصلي كونغ فو تزو، وقد أطلق عليه الأوروبيون اسم كونفوشيوس هذا في القرن السابع عشر، أي بعد مرور أكثر من ألفي سنة على ولادته التي حدثت في منتصف القرن السادس ق.م ، وسوف يكون له في الصين توقير أعمق من أي فيلسوف آخر، لأن ما قاله ونسب إليه قد صاغ تفكير مواطنيه طوال ألفي سنة. كان كونفوشيوس ينتمي لعائلة من قراء الوحي من طبقة النبلاء الأدنى، وقد أمضى بعض الوقت وزيراً للدولة ومشرفاً على أهراء الحبوب، وكانت لديه أفكار وتوصيات حول أسس الحكم العادل، ولكنه عجز عن إيجاد حاك يطبقها بصورة عملية، فتحول عندئذٍ إلى التأمل والتعليم. وكانت غايته هي أن يقدم صيغة نقية ومجردة للحقائق التي كان يؤمن أنها كامنة في جوهر الممارسات التقليدية، وأن يعيد بذلك إحياء الاستقامة الشخصية والخدمة المنزهة عند الطبقة الحاكمة. كان كونفوشيوس رجلاً محافظاً مصلحاً، وكان يؤمن أن هناك في الماضي عصراً أسطورياً كان كل إنسان فيه يعرف مكانه ويؤدي واجبه، وكانت العودة إلى ذلك العصر هي غايته الأخلاقية. وكان يوصي بمبدأ النظام أي وضع كل شيء في مكانه الصحيح ضمن تجربة الحياة الكبرى، وقد تجلى هذا الأمر في نزعة قوية لتأييد المؤسسات التي تحافظ على ذلك النظام، مثل العائلة والتسلسل الهرمي والأقدمية، وفي احترام الواجبات الكثيرة والمتدرجة التي تربط بعضها ببعض. وكان من شأن هذه التعاليم أن تعطي رجالاً يحترمون الثقافة التقليدية، ويشددون على قيمة الأعراف السليمة والسلوك القويم، ويسعون إلى تحقيق واجباتهم الأخلاقية في الأداء الدقيق لمهامهم.

    لقد نجحت هذه التعاليم نجاحاً فورياً من ناحية أن الكثيرين من تلاميذه قد اكتسبوا شهرة ونجاحاً دنيويين مع أن تعاليمه تستنكر السعي المقصود نحو هذه الأهداف، وتحض على إنكار الذات بشهامة، ولكنها نجحت أيضاً من ناحية أعمق وأطول عمراً بكثير، لأن أجيالاً من الموظفين الصينيين سوف تدرب على مبادئ السلوك والحكم التي وضعها. لقد صارت نصوص كونفوشيوس، وليست كلها أصلية، تعامل بما يشبه الخشوع الديني، واستخدمت لقرون طويلة بصورة موحدة وخلاقة من أجل قولبة أجيال من حكام الصين ضمن مبادئ كان يعتقد أنه قد وافق عليها، ويلفت النظر هنا التشابه مع استخدام الكتاب المقدس المسيحي في زمن لاحق، على الأقل في البلاد البروتستانتية، إلا أن كونفوشيوس لم يقل أشياء كثيرة حول أمور ما فوق الطبيعة، فهو لذلك لم يكن معلماً دينياً بالمعنى المألوف للكلمة، وربما لهذا السبب حقق معلمون آخرون نجاحاً أكبر منه بين الجماهير، بل كان همه الأكبر هو الواجبات العملية. ويبدو أن الفكر الصيني اللاحق أيضاً لم يهتم كثيراً بالأمور النظرية، مثل حقيقة عالم الحواس أو إمكانية الخلاص الفردي، بعكس تقاليد فكرية أخرى أرقتها هذه الأفكار، كما أن الفلاسفة الصينيين لم يهتموا كثيراً بوضع مخطط للمعرفة عبر الاستجواب المنهجي لطبيعة العقل ومدى قدراته، بل صاروا يهتمون بعبر الماضي وحكمة الأزمان الغابرة والحفاظ على النظام السليم، أكثر من تأمل الألغاز الثيولوجية والأحاجي الفلسفية، أو البحث عن الأمان بين ذراعي آلهة غامضة. ولا تدين التقاليد الفكرية الصينية بعد كونفوشيوس بالكثير لتعاليم الأفراد، بعكس التقاليد الأوروبية التي تقوم على الاستجواب المنهجي.

    ومع ذلك فقد ظهرت أنظمة فكرية منافسة للكونفوشيوسية، فهناك المعلم لاوتسه، وهو حكيم ذائع الصيت جداً، مع أننا في الحقيقة لا نكاد نعلم عنه شيئاً، ويقال إنه مؤلف النص الذي يعتبر الوثيقة الأساسية في نظام فلسفي سمي فيما بعد ”بالطاوية”. يدعو هذا النظام إلى الإهمال المقصود لأشياء كثيرة تؤيدها الكونفوشية، مثل احترام النظام السائد واللياقة والتقيد الدقيق بالتقاليد والطقوس، كما تحض الطاوية على الخضوع لمفهوم كان موجوداً في الفكر الصيني أصلاً ومألوفاً لدى كونفوشيوس، هو مفهوم الطاو أو ” الطريق”، وهو المبدأ الكوني الذي يتخلل الكون المتناغم ويدعمه. ومن الناحية العملية يؤدي هذا التفكير إلى الاستكانة السياسية والزهد واتخاذ البساطة والفقر مثالاً. كما أن ثمة حكيماً آخراً أتى لاحقاً في القرن الرابع هو منشيوس (منغ تزو)، علم الناس أن يسعوا لخير البشرية، فكانت تعاليمه تطويراً لتعاليم كونفوشيوس وليست افتراقاً عنها. والحقيقة أن جميع مدارس الفلسفة الصينية كان عليها أن تحسب حساب تعالم كونفوشيوس، إذ أنها قد حظيت بمكانة ونفوذ عظيمين. ولا يمكنك أن تقيم التأثير الكامل لتعاليمه، التي لم تبلغ فترة نفوذها الكبرى إلى بعد موته بزمن طويل، إلا أنه قد وضعت المعايير والمثل للنخب الإدارية حتى يومنا هذا. وكانت تركز على اهتمام كبير بالماضي سوف يعطي كتابة التاريخ في الصين نزعة منحازة ومميزة لها، وربما كانت لها تأثيرات ضارة على البحث العلمي، وقد تغلغل الكثير من مبادئها أيضاً مثل توقير الأجداد في الثقافة الشعبية من خلال القصص والمواضيع التقليدية للفن، فزادت بذلك من تمتين حضارة الصين التي كانت ملامحها اللافتة قد ترسخت بحلول القرن الثالث ق.م.

    مازال فن الصين أكثر جوانب حضارتها القديمة جاذبية وقرباً، ولم يبق شيء هام من عمارة الشانغ والتشو لأنهم كانوا يبنون بالخشب عادة، كما أن المدافن لا تكشف عن أشياء كثيرة.

    ولكن من ناحية أخرى دلت الآثار على قدرة لتشييد الأبنية الكبرى، فقد كان سور إحدى عواصم التشو مصنوعاً من تراب مضروب علوه ثلاثون قدماً أي (تسعة أمتار)، وثخانته أربعون قدماً أي (اثنا عشر متراً)، كما أن الأغراض الصغيرة والكثيرة الباقية تدل على أن هذه الحضارة كانت قادرة على صنع أعمال رائعة منذ أيام الشانغ، وينطبق هذا بالأخص على الخزف، الذي لم يكن يضاهيها فيه أحد في العالم القديم، فضلاً عن أشغال البرونز العظيمة، والتي بدأت تصنع في أوائل عصر الشانغ، ثم استمرت بعد ذلك بلا انقطاع. كان فن سبك أوعية القرابين والقدور وجرار النبيذ والأسلحة والأوعية الثلاثية الأقدام قد بلغت ذروته منذ عام 1600 ق.م، ويظهر سبك البرونز بصورة مفاجئة وعلى مستوى عال من الإتقان جعل البعض يحاولون تفسيره بانتقال التقنية من الخارج، ولكن ليس هناك دليل على ذلك. كما أنه ليس هناك دليل على أن أشغال البرونز الصينية قد بلغت العالم الخارجي في الأزمنة الباكرة، إذ لم يكتشف أي عمل في أي مكان آخر يعود لما قبل منتصف الألف الأولى ق.م. وحتى في الأزمنة الأبكر لم يكتشف خارج الصين أي من الأشياء الأخرى التي أولاها الفنانون الصينيون اهتمامهم الكبير، مثل حفر الرسوم الجميلة والدقيقة على الحجر والحجر اليشب. ويبدو أن الصين لم تصبح لها علاقات هامة بالعالم الخارجي إلا في زمن متقدم من الحقبة التاريخية فيما عدا بعض الأشياء القليلة التي تعلمتها من جيرانها البرابرة. فكان مثلها مثل حضارة الهند، في أنها لم تبد نزعة قوية للتوسع خارج مهدها، على عظمته.


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 22, 2024 6:37 am